Lycee Bendjerir

ماذا عن ثانوية بن جرير بالمغرب؟

بقلم : أبو بكر خالد سعد الله

قسم الرياضيات/ المدرسة العليا للأساتذة-القبة

بن جرير مدينة صغيرة بالمغرب الشقيق تقع بين مراكش والدار البيضاء، ولا يتجاوز عدد سكانها نصف عدد سكان مدينة الوادي الجزائرية. ومع ذلك، ذاع صيتها بين الجامعيين والكليات الراقية في الوقت الراهن بفضل تشييد ثانوية التميّز التي تم فتحها عام 2015 في هذه المدينة… وهذا بعد سنتين من افتتاح ثانوية الرياضيات في الجزائر العاصمة

تخريج النخب

والظاهر أن الثانويتين، الجزائرية والمغربية، كان لهما نفس الهدف، وهو تخريج نخبة من التلاميذ في المجال العلمي والتكنولوجي. وقد سبق لنا الحديث عن وضع تلاميذ ثانوية القبة وانعدام مرافقتهم من قبل السلطات… ولا لزوم للعودة إلى مساوئ حال هذه المؤسسة. وإنما ما يهمّنا هنا هو وصف ما الذي جعل ثانوية بن جرير تصعد إلى القمة في تكوين النخبة خلال بضع سنين

وثانوية التميّز بن جرير لا تضمن الدراسة حتى البكالوريا فحسب، بل فُتحت بها ما يسمى في التقليد الأكاديمي الفرنسي “أقسام تحضيرية” يدرس فيها التلميذ بعد المرحلة الثانوية مدة سنتين. ثم يتوجّه إلى الكليات المتعددة التقنيات والمدارس الكبرى والجامعات في المغرب وفي الخارج لاستكمال دراسته. ولا بأس أن نذكر في هذا المقام بأن فتح مثل هذه الأقسام الخاصة هو ما كان يدعو إليه بعض الجامعيين عندنا بخصوص توسيع النشاط التكويني في ثانوية الرياضيات. لكن هذا النداء لم يجد آذانا صاغية لدى أصحاب القرار

ومن المعلوم أن ثانوية بن جرير -التي يدرس بها نحو 900 تلميذ وطالب- قد تمّ تصنيفها السادسة في قائمة الثانويات الفرنسية المتميّزة بأقسامها التحضيرية

وما لفت انتباهنا هو ما أشادت به صحيفة “لوموند” الفرنسية في مقال نشر حول هذه الثانوية يوم 27 أبريل الماضي. وقد أبرزت المبعوثة الخاصة لهذه الجريدة مكانة ثانوية بن جرير حيث استطاع 17 طالبا وطالبة، زاولوا دراستهم في هذه المؤسسة الالتحاق، عام 2020، بالمدرسة المتعددة التقنيات الباريسية الذائعة الصيت؛ وهي المؤسسة التي تم إنشاؤها في نهاية القرن الثامن عشر، ولا يلتحق بها سوى خيرة المواهب. ومن المعلوم أن ثانوية بن جرير -التي يدرس بها نحو 900 تلميذ وطالب- قد تمّ تصنيفها السادسة في قائمة الثانويات الفرنسية المتميّزة بأقسامها التحضيرية

تتربّع هذه الثانوية على مساحة تقدّر بـ 18 هكتارا، وتعمل بالنظام الداخلي دون غيره. كيف أنشئت المؤسسة؟ تُعرف مدينة بن جرير بإنتاجها للفوسفاط ونشاطها المنجمي، وشركة الفوسفاط المغربية (المسماة “المكتب الشريف للفوسفاط) هي التي موّلت بالكامل مشروع بناء هذه الثانوية. فزودتها بمرافق وأقسام وتجهيزات ومخابر علمية وغرف للطلبة كلها من آخر طراز. ولم ينس هذا المموّل الملاحق الخاصة بالترفيه، مثل الملاعب المختلفة والمسبح والمسرح وقاعات الرياضة، وغيرها. ثم إن كل النفقات الخاصة بالدراسة والإطعام والإقامة تقع على كاهل الثانوية ومموليها.

الأولوية لمناطق الظلّ

والجميل فيما يخص انتقاء التلاميذ، أنهم يخضعون لمسابقة شفوية وكتابية دقيقة، ولا يكتفون بعلامات هؤلاء التلاميذ في مدارسهم الأصلية. والأجمل من ذلك أن أصحاب القرار يركّزون على أبناء الطبقة المحرومة في قرى “مناطق الظل”. وتتميّز هذه المؤسسة بكون معظم تلاميذها من الإناث (ثلثان في المرحلة الثانوية ونصف الطلبة في الأقسام التحضيرية). ويُذكر أن الأساتذة والمعلمين في مناطق الظل كثيرا ما يتدخلون لاقناع أولياء التلاميذ الموهوبين للسماح لهم بالالتحاق بهذه الثانوية لأن من الأولياء من يخشون على أبنائهم وبناتهم إذا ما ابتعدوا عن أعينهم. بل هناك من المواهب في تلك المناطق من يسهمون في توفير لقمة العيش لعائلاتهم الفقيرة، وفي هذه الحالة تتدخل الثانوية ماديا لدى هؤلاء الأولياء مقابل ترك ذريتهم تلتحق بالثانوية !

أما الأساتذة الذين يمارسون مهنة التدريس في ثانوية بن جرير -التي تعتبر مؤسسة تربوية ذات طابع خاص وعام في نفس الوقت- فهم يأتون مباشرة من سلك أساتذة وزارة التربية، ويتم انتقاؤهم وفق معايير صارمة. ومن الامتيازات التي تقدم لأساتذة الثانوية راتب مضاعف، فضلا عن علاوات تحفيزية أخرى. وللمقارنة، نسأل : ما هي المقاييس التي على ضوئها تنتقي وزارة التربية عندنا أساتذة ثانوية الرياضيات؟ وماذا تقدم لهم من محفزات؟! فحسب علمنا، لا المقاييس مقاييس، ولا المحفزات محفزات.

ونتيجة لتوفير كل أسباب النجاح للتلاميذ في ثانوية بن جرير، فكل المتعلمين يتحصلون على البكالوريا بدون استثناء، بل معظمهم يفوزون بتقديرجيد جدا

ونتيجة لتوفير كل أسباب النجاح للتلاميذ في ثانوية بن جرير، فكل المتعلمين يتحصلون على البكالوريا بدون استثناء، بل معظمهم يفوزون بتقدير “جيد جدا”. وتوجد بالمدينة جامعة للعلوم والتكنلوجيا من شأنها أن تستقبل هؤلاء الخريجين، لكن الكثير منهم يطمحون إلى مواصلة الدراسة في الخارج لمزيد من التألق، وبوجه خاص في فرنسا. وهذا ما تشجعهم عليه شركة الفوسفاط… وكأنها موّلت الثانوية لتصدير متميزيها إلى فرنسا وبقية العالم، فهي تكتفي بالأمل في أن يعود البعض من الخريجين إلى الوطن ليسهموا في تنمية البلاد وفي تنمية الشركة ذاتها! فوضع التشغيل في المغرب، كما في بلدان أخرى كثيرة، لا يبشر بالخير خاصة في ظروف الجائحة، حيث بلغت البطالة في الوسط الحضري المغربي، حسب جريدة لوموند، نسبة  42.8% … وكثير من حاملي الشهادات في المؤسسات يؤدون مهام دون مستواهم التكويني والعلمي

وهنا تكمن المعضلة : تبذل بعض دول العالم الثالث جهودا مضنية في سبيل زيادة حظوظ التألق لفئة قليلة على حساب الإمكانيات التي توفرها لعامة المتعلمين. وفي آخر المطاف، تغادر تلك الفئة القليلة الوطن ليستفيد الغير من قدراتها العلمية. وفي المقابل، إذا لم تكوّن تلك البلدان نخبة فستظل ترزح تحت سقف التخلف. فما العمل؟

الإجابة صعبة لأن الوضع يتعلق بأمرين أحلاهما مرّ. وكم من محلّل يرى أن الاستثمار في الطبقة الوسطى من التلاميذ أكثر أمانا وأفيد للبلاد. غير أن التخلي عن النخب أمر لا يقبله عاقل. فالواجب الوطني يدعو إلى الاهتمام بها، والاهتمام أكثر بإيجاد الحلول التي تجعل بلداننا تستفيد من نخبها في الداخل قبل أن يستفيد منها الخارج. كما أن العمل على جلب من غادروا ضرورة في البحث عن التوازن المنشود

وعلى كل حال، فتجربة ثانوية بن جرير المغربية تجربة رائدة على أكثر من صعيد، وهي تستحق التأمل واستنباط العبر منها لعلنا نحلّ عندنا معضلة النخب والحدّ من هجرتهم